ليـتنـي تكـلـّمت !!
وقف بسيارته غير بعيد عن باب بيتها ، يرقب بعينيه الغائرتين لحظة خروجها كي يرمقها بنظرات الوداع الأخيرة ، فجأة خرجت من ذلك الباب ، متأبطة ذراع عريسها ، صدرت منه شهقة ، بعدها تدافعت الدموع من عينيه كمطر غزير ، أخذ يقاومها عله يراها بوضوح .. رآها تلتفت برأسها يمينا وشمالا ، خيل له أنها تود أن تري الجميع مقدار سعادتها ..
ثم ركبت السيارة بجوار زوجها ، و انطلقت بهما نحو الرياض ، أطبق عينيه المرتجفتين ، حرك سيارته مبتعدا عن عيون الناس الذين بدؤوا يخرجون من بيت العرس ، انطلق كطفل خائف من عقاب بعد ذنب كبير اقترفه ، أخذ يهيم بسيارته في شوارع قريته ، لا يلوي شيئا ، كان كمخنوق يبحث عن هواء يتنفسه ، وجد نفسه يسير على طريق صحراوي ممتد ، أوقف سيارته ، و أمال برأسه إلى الوراء و أخذ يتذكرها ..
تذكرها عندما كانا طفلين يعيشان في حي قديم ، و تسكن في البيت المقابل لبيتهم ، كانت أصغر منه بسنة ، يلعبان بالتراب و الطين ويصنعان منهما بيوتا وشخوصا وكل ما تشكل في مخيلتهما البسيطة .. تذكر عندما كان يأخذ ألعابها ، فتذهب إلى بيتها تصرخ و تبكي..
تذكرها .. عندما مرت سنوات ، وجاءت في يوم من الأيام ، و معها صحن فيه بعض الفواكه ، فوجئ بها وقد لبست عباءة و وضعت خمارا على وجهها ، أدرك أن سن الطفولة قد ولى وأنه لن يراها ثانية ، كان يود أن يقول لها : إني لست مجرد صديق ، بل أنا لك حبيب ، و لكن الحياء منعه ، عقد لسانه ..
تذكرها .. عندما أراد أهلها الانتقال إلى بيت جديد ، شاهد والدها ينقل أمتعتهم البسيطة ، شمر عن ذراعيه و أخذ يساعده ، عند ذلك خرجت مع أمها ، ركب أبوها السيارة و تبعته أمها و بقيت هي تغلق باب بيتهم القديم ، خفق قلبه و تسارعت دقاته ، كان يود أن يقول لها : أتذكريني ؟ أنا من عشت معه طفولتك .. أنا من كان بالأمس لك صديق ، و يتمنى أن يكون لك زوجا و حبيبا ، في قلبي حب دفين .. و في صدري ألم و حنين .. و لكن ..
بعد سنوات دخل على أمه و هي تبكي ، أصابه الذعر ، اقترب منها ، سألها عن السبب ، قالت : أم الجيران ماتت ..
كانت قد دخلت المستشفى قبل أيام ، ولكنها لم تمهل كثيرا ، ماتت من غير ضجيج .. كما يموت الكثير من البسطاء ..
تذكرها .. ذهب إلى بيتهم ، وقف مع والدها في أيام العزاء ، يشد من أزره و يجبر كسره ، كان يسمع بكاءها و نحيبها من الداخل ، فيتقطع قلبه لذلك ، كان يتمنى لو كان معها في مصيبتها ، يخفف عنها و يشد من أزرها ، كان يود أن يقول لها : لا تبك يا حبيب العمر ، فدموعك تقطع قلبي ، و نحيبك يهز أركاني ..
أفاق من ذكرياته على أضواء سيارة قادمة من الجهة المقابلة ، نظر إلى ساعته ، كان الوقت متأخرا ، كفكف دموعه و استجمع قواه ، ثم عاد إلى بيته .
بعد أيام من حزنه العميق ، بدأ يفيق ، نهض من فراشه ، بدأ يمشي بتثاقل ، و صحته في اعتلال ، خرج من البيت ، ركب سيارته ، وبلا وعي وجد نفسه يتجه نحو بيتها ، يعرف أنها لم تكن موجودة و لكن ..
في تلك اللحظة .. كان أبوها يحمل أمتعته ليعيش مع ابنته في الرياض ، فقد أصبح وحيدا في البيت ، بعد فترة انطلقت السيارة بعيدا ، ذهب يجر قدميه نحو المكان الذي كانت تسكنه ، بيت أصبح كالأطلال ، وقف أمامه و بدأ يتمتم : مشت من هنا ، و دخلت من هنا ، وخرجت من هنا ، وفجأة .. وجد شيئا على الأرض ، كان دفترا قديما يحمل عنوانا كبيرا : ذكرياتي ... ويحمل توقيعها .
التقطه .. و أسرع إلى البيت يحتضنه ، فهو ما تبقى له من ذكراها ، بدأ يتصفحه بسرعة ، وقف عند صفحة ، كانت تقول فيها :
عشنا معا في حي قديم نلعب معا و نلهو معا ، أعجبت به منذ الصغر و لكنه لم يشعر بذلك ، أذكر أنني أول ما لبست العباءة طلبت من أمي أن أوصل صحن الفواكه لهم ، و لحس حظي فتح هو الباب ، كان بودي أن أقول له : كم أنا بك معجبة ، كم كنت أتمنى أن أقول له أنني لست مجرد صديق ، بل أنا لك حبيب .. ولكن ..
فتح صفحة أخرى ، وجدها تقول : أعجبتني رجولته و هو يحمل أمتعتنا عندما كنا نغادر بيتنا القديم ، تظاهرت أني أقفل الباب ، كنت أتمنى أن أهمس له أنني أحبك .. ولكنه ابتعد عني ..
ارتعشت يداه و اختلفت نظراته و ضاعت الكلمات أمام عينيه ، فتح صفحة أخرى وجدها تقول : يوم وفاة أمي ، جاءنا يعزي ، وقف مع أبي ، يستقبل المعزين ، كنت أتمنى أن يكون معي ، يمسح دمعتي ، و يواسيني ، لكنه لم يحس بي ..
بدأت أنفاسه تتسارع ، و أصبح قلبه يخفق بشدة و يكاد يخرج من ضلوعه ، فتح آخر صفحة ، وجدها تقول : عندما كبرت ، كنت أتمنى أن أكون له زوجا ، انتظرته كثيرا فلم يحضر ، وفي يوم زفافي كان الأمل بأن أراه ، وألقي عليه نظرة الوداع ، عندما خرجت من البيت ، التفت يمينا وشمالا أبحث عنه ، لكن لا أثر له ..
لم يتمالك نفسه ، وسقط ، يبكي بكاء الأطفال ، بكاء مرا ، لم يبكه طول حياته ، و هو يردد بلا وعي : ليتني تكلمت .. ليتني تكلمت ..
منقول
تحياتي ،،